بقلم:هاني المصري
لقد
فعلت القيادة الفلسطينية الكثير من أجل إنجاح مبادرتها الديبلوماسية في
التوجه إلى الأمم المتحدة، سواء من خلال توحيد الموقف الفلسطيني أو العربي،
أو على صعيد الحصول على أكبر عدد ممكن من اعتراف الدول بالدولة
الفلسطينية، بما يتضمن تصويت أكبر عدد من الدول على مشروع القرار الذي
ستقدمه إلى الأمم المتحدة في هذا الشهر بالحصول على العضوية الكاملة عبر
تقديمه إلى مجلس الأمن، أو بالحصول على عضوية دولة مراقبة عبر تقديمه إلى
الجمعية العامة للأمم المتحدة.
بالطبع، سيكون الفيتو الأميركي بالمرصاد
لأي مشروع قرار سيعرض على مجلس الأمن، ما يعني أن المشروع سيجد فرصة للنجاح
في الجمعية العامة إذا سبقه تصويت في مجلس الأمن أو إذا لم يسبقه التصويت
على أن يأتي في وقت آخر يكون مناسباً، أكثر من الوقت الحالي.
القيادة
الفلسطينية رغم جهودها الكبيرة لم تفعل كل ما يمكن فعله لتوحيد الموقف
الفلسطيني، بدليل أن اتفاق المصالحة علّق تطبيقه على مذبح استحقاق أيلول،
رغم أن من المفترض أن يشكل تطبيقه رافعة كبرى لإنجاح استحقاق قيام الدولة
الفلسطينية، ويرجع ذلك إلى الخشية من عواقب تطبيق اتفاق المصالحة على
"عملية السلام"، وفرص استئناف المفاوضات، والدعم الدولي للسلطة، خصوصاً وسط
التهديدات الأميركية والإسرائيلية بتنفيذ عقوبات ضد الفلسطينيين إذا
توجهوا نحو الأمم المتحدة أو إذا مضوا قدماً بتطبيق اتفاق المصالحة.
ما
يدفع بتأجيل اتفاق المصالحة أن القيادة الفلسطينية لا تزال تراهن على
المفاوضات بدليل ترديدها بشكل دائم "بأن المفاوضات هي الخيار الأول والثاني
والثالث لها" مهما كانت نتيجة الذهاب إلى الأمم المتحدة، ما يجعله ليس
بداية لمسار جديد بديل عن المفاوضات الثنائية، وعن اتفاق أوسلو، والانفراد
الأميركي برعاية "عملية السلام" رغم انحيازه بشكل مطلق لإسرائيل؛ وإنما
استمراراً لهذا المسار، ووسيلة ضغط تكتيكية من أجل إنجاح الجهود الرامية
إلى استئناف المفاوضات.
كان من المطلوب أيضاً إشراك "حماس" و"الجهاد
الإسلامي" وجميع القوى والفعاليات الوطنية لتقوية الموقف الفلسطيني من أجل
إنجاح التوجه، وليس إهمالها وجعل مسألة التوجه رهينة لبضعة أفراد، وفي أحسن
الأحوال للمنظمة فقط.
لن يقدم مشروع القرار إلا في اللحظات الأخيرة،
وهذا يعكس مراهنات خاسرة ويقلل من فرص الدعم السياسي والشعبي له، لأن
الصورة غير واضحة حتى الآن على الرغم من بدء العد التنازلي لموعد تقديمه،
بدليل حالة الارتباك والتناقض في التصريحات، وما تبديه المقالات والبيانات
عن قلقها من مخاطر واحتمالات لا يبدو أنها أخذت كلها بالحسبان.
على سبيل
المثال، نلاحظ أن حركة حماس صاحبة الثقل الكبير اتخذت موقفاً يتراوح ما
بين انتقاد التوجه إلى الأمم المتحدة؛ لأنه "هراء" تارة، أو لأنه لم يتم
التنسيق معها تارة ثانية، أو الصمت تارة ثالثة، وكأن هذه المعركة لا تخص
"حماس" وإنما تخص المنظمة أو أوساطاً فيها دون بقية الفلسطينيين ولم تنبس
ببنت شفة حول مقومات النجاح في هذه المعركة.
لا يكفي القول بأن "حماس"
دُعيت للمشاركة في دورة اجتماعات المجلس المركزي، فأهمية التوجه إلى الأمم
المتحدة تستدعي أكثر من ذلك بكثير، مثل دعوة الإطار القيادي المؤقت
للمنظمة؛ ليضع على رأس جدول أعماله كيفية مواجهة التحديات والمخاطر التي
تتعرض لها القضية الفلسطينية، وكيفية إنجاح مبادرة التوجه إلى الأمم
المتحدة. ولا يكفي ما حققه اتفاق المصالحة من إيحاء بوجود وحدة فلسطينية،
بل المطلوب وحدة وطنية حقيقية.
وتظهر أهمية الوحدة إذا توقفنا أمام ما
بعد أيلول، فحتى الآن لم تفعل القيادة الفلسطينية شيئاً استعداداً لما بعد
أيلول، لدرجة أن ما بعد أيلول سيأتي تشرين الأول كما صرح نبيل شعث دون أن
يكون نقطة تحول تاريخية كما روّج لها طويلاً.
وتباينت القيادة
الفلسطينية بين من يقول: إن ما بعد أيلول تشرين الأول، في إشارة إلى أن لا
شيء سيتغير، وكأن الأمور ستبقى بعد أيلول على ما هي عليها الآن، ومن يقول:
إن استخدام الفيتو الأميركي أو تنفيذ العقوبات الأميركية والإسرائيلية
سيؤديان إلى انهيار السلطة في تلويح ضمني بحل السلطة، وما يعنيه ذلك من
عودة المواجهات المفتوحة على كل الاحتمالات والمخاطر. وهناك من يقول بأنه
لا يوجد في الأجندة الفلسطينية تشرين الأول بعد أيلول؛ وذلك لإبقاء الأوراق
والخيارات الفلسطينية مخفية.
وهناك أخيراً من ينادي بضرورة اعتبار
التوجه إلى الأمم المتحدة نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، تستوجب وضع
إستراتيجية جديدة شاملة قادرة على تحقيق ما عجزت عن تحقيقه المفاوضات
الثنائية التي أدت إلى تعميق الاحتلال والانقسام وفقدان الاتجاه.
إن عدم
الاستعداد لما بعد أيلول يعكس عدم الجدية المطلوبة إزاء أمر بمثل هذه
الأهمية، ويضعف من فرص نجاح المبادرة الديبلوماسية. فلا يمكن النجاح تماماً
في أيلول إذا لم نستعد لما بعده، خصوصاً في ظل وجود عدة سيناريوهات تبدأ
باستمرار الوضع الحالي السيئ مع الحصول على قرار من الجمعية العامة بمنح
فلسطين دولة مراقبة تعطي مزايا ديبلوماسية وقانونية، ولكنها لا تغير من
واقع الاحتلال على الأرض، وقد تنقلب إلى مجرد قرار جديد لصالح الفلسطينيين
يضاف إلى عشرات القرارات الأخرى، ويكون أقل من قرارات أخرى على رأسها قرار
التقسيم 181. ويثير التوجه أيضاً خلافات حول تأثيره على مكانة المنظمة وحق
العودة وتقرير المصير.
لا يمكن الاكتفاء بالقول إن الاعتراف بالدولة
الفلسطينية وحصولها على العضوية الكاملة أو المراقبة في الأمم المتحدة لا
يمس بمكانة المنظمة والحقوق الأساسية الفلسطينية لمجرد أن المنظمة هي التي
ستقدم الطلب، بل لا بد من ضمان ذلك من خلال كيفية ومضمون القرار المقدم
والإجراءات التي ستحكم التوجه إلى الأمم المتحدة، بحيث يتم التأكيد في نص
القرار على أن المنظمة ستكلف من قبل الدولة بعد حصولها على العضوية بمتابعة
مهماتها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني ومدافع عن حقوقه الوطنية.
بعد الاعتراف بالدولة لن تبقى المنظمة عضواً مراقباً، وإنما سيحل محلها دولة فلسطين.
يمكن
أن يظهر إلى أرض الواقع سيناريو سيئ جداً من خلال تنفيذ العقوبات
الأميركية والإسرائيلية، فهل الفلسطينيون مستعدون لتبعيات هذا السيناريو،
وماذا يمكن أن يؤدي إليه من ردود فلسطينية يمكن أن تكون تداعياتها مواجهة
جديدة مع إسرائيل يمكن أن تؤدي إلى انهيار السلطة واتفاق أوسلو وعملية
السلام، وربما إلى استقالة الرئيس وحدوث فراغ سياسي في السلطة والمنظمة،
وإلى إشاعة الفوضى والفلتان الأمني. هل يمكن الذهاب إلى الأمم المتحدة دون
أخذ هذه السيناريوهات بالحسبان والاستعداد لها؟ وهل يمكن الاكتفاء بردود
الأفعال على ما يمكن أن يحدث دون وضع إستراتيجية شاملة متكاملة قادرة على
المبادرة والتأثير على الأحداث بدلاً من السير اللاهث وراءها.
لا يمكن
الاكتفاء بترديد القول بأن الذهاب إلى الأمم المتحدة لا يتناقض مع عملية
السلام واستئناف المفاوضات، فهذا مجرد رأي يمكن دحضه بسهولة، لأن اتفاق
أوسلو والمفاوضات الثنائية على نقيض تام مع التوجه إلى نقل ملف القضية
برمته إلى الأمم المتحدة.
لا يمكن تجاهل تهديد الحكومة الإسرائيلية التي
خسرت بغبائها دولة بأهمية تركيا باتخاذ خطوات رداً على التوجه الفلسطيني
إلى الأمم المتحدة، تتمثل في: إلغاء اتفاق أوسلو، وضم الكتل الاستيطانية
وغور الأردن، ومنع تحويل العائدات الجمركية الفلسطينية إلى السلطة،
وإجراءات أحادية أخرى قد تصل إلى فرض الدولة ذات الحدود المؤقتة من جانب
واحد على غرار خطة فك الارتباط التي نفذتها حكومة أرئيل شارون في غزة.
كما
لا يمكن تجاهل أن استمرار الوضع الراهن بالاعتراف بالدولة الفلسطينية
بقرار من الأمم المتحدة - على أهميته- لا يغير من الواقع الاحتلالي، ولا
يغني عن ضرورة وضع بديل إستراتيجي متكامل عن خيار المفاوضات الثنائية
المحكوم عليه بالفشل في الماضي وحالياً ومستقبلاً ما لم يسبقه تغيير ميزان
القوى بشكل جوهري لصالح الفلسطينيين.
لا بد من المصارحة والاستعداد لكل
الاحتمالات بكل جرأة، لأن الذهاب إلى الأمم المتحدة وحده ليس حلاً، بل قد
يفتح الطريق أمام خيارات أخرى لا تريدها السلطة ولكنها تجد نفسها مجبرة
عليها وفريسة لها.