قال لي صاحبي ،
وقد قرأ رسالة من فتى حديث السن ، يتقد حماساً وغيرة ، يهاجم فيها رأياً
لم يرق له ، ويستخدم لغة مكتظة بالمفردات الحادة ، والتعبيرات القوية ..
كيف تعيش حياتك وتهنأ بنومك وأنت تقرأ مثل هذه الرسالة وربما غيرها ؟
ابتسمت وأنا أقول لصاحبي .. ليس ثمّ ما يدعو إلى الجزع من شخص يختلف معك ،
ويعبر عن اختلافه بطريقة تناسبه ، وهو يتحمل هو تبعتها .. كما قال أحدهم :
لأسبنك سباً يدخل معك قبرك ؟
قال له : بل يدخل معك أنت !
ربما المشكلة هي في استخدامه لغة دينية ، لأن دافعه فيما يظن هو ديني ، فالغيرة والصفاء والصدق والإخلاص هو ما يحس به تجاه ذاته .
والشك والحيرة أو سوء الظن هو ما يحس به تجاه من يختلف معه ، وهنا عمق المشكلة .
أن يكون يريد تحطيمك وتدميرك على الأقل معنوياً باسم الله !
قلت لصاحبي .. أعظم ما تواجه به مثل هذا الصنع هو الانكسار بين يدي الله ،
والسجود والتذلل لوجهه ، مع استحضار قربه وعظمته ، واستذكار علمه
بالدوافع والنوايا وخطرات القلوب ، وما تخفي الصدور ، فيما يخصك ، وفيما
يخص خصمك .
وعلمه التام بأحوال العباد ومصالحهم ، وما يترتب على الأقوال والأعمال من
الآثار والمآلات التي تعبّدنا فيها بالاجتهاد وبذل الوسع ، ثم جعل الآخرة
مملكة العدل التي لا سلطان فيها لغيره ، ولا ظلم ، ولا أسرار (لا يَخْفَى
عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ)(غافر: من الآية16) ، (يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة:18) ، (يَوْمَ
تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ)
(الطارق:10،9) .
هو الله الذي تعبده دون وسيط ، وتتضرع إليه أن يأخذ بيدك إلى الحق والخير
والعدل في المضايق والمشتبهات ، وتحاول أن تتجرد من مقاصد الشر والإثم
والبغي والأذى ، ونيات السوء وظنون السوء ، وأن تعترف بنقصك وجهلك وظلمك
وخطئك وعجلتك ، وتضع بين يديه عجرك وبجرك ، وخيرك وشرك ، وتناديه بأن
يحميك من نفسك أولاً ، ثم من شر الآخرين وضرهم وأذاهم ، وإذ قدر ألا أحد
من خلقه يسلم من أذى الخلق فالضراعة إليه أن يمنحك القدرة على الاحتمال
والصبر والانضباط ، فلا تخطئ في حقهم ، ولا تظلم أو تبغي ، ولا تصر على
خطأ بان لك فيه وجه الحق ، ولا تتزحزح عن صواب أنت مؤمن به في دخيلتك ،
فالله الذي باسمه يتوعدك هذا الفتى ، هو الله الذي تؤمن به ، وتستغيث
وتستنجد ، إياه تعبد ، وله تصلي وتسجد ، وإليه تسعى وتحفد .
يا صديقي .. لا أحد من الخلق يستطيع أن يغضبك أو يحزنك دون إرادتك !
ما تحس به في داخلك من مشاعر سلبية ليس بسبب ما يحدث حولك ، ولا برسالة
منتقصة ، أو ازدراء عابر ، أو ظن سوء من بعيد ، أو جفاء من قريب .. كلا .
ما يحدث في داخلك هو بسبب تحليلك أنت للأمور من حولك .
وعندما تغيّر طريقة نظرك للأحداث ستتغير مشاعرك ، وتهدأ انفعالاتك حتى بالنسبة للحدث ذاته .
وَما الخَوفُ إِلّا ما تَخَوَّفَهُ الفَتى وَلا الأَمنُ إِلّا ما رَآهُ الفَتى أَمنا
كنت ذات مرة أداري سؤالاً محرجاً أخشى أن يواجهني به أحد فينتزع مني كلاماً لم أرتبه جيداً ، أو يُربكني فأقول ما ليس لي به علم .
ثم تأملت السؤال مرة ومرتين فانقدح في نفسي له جوابات فيها بعض السداد
والتوازن ، فصرت أتمنى أن لو أتيح لي من يقول السؤال ذاته الذي كنت أخافه ،
أياً كان مقصده في عرض السؤال ؛ لأنه سيمنحني فرصة جميلة لأقول كلاماً
مناسباً .
حينما تقع مشادة كلامية بينك وبين آخر ، وتؤدي إلى أن يقول عنك شيئاً يؤذي
مشاعرك ويجرح أحاسيسك ، فيمكنك أن تفسّر الأمر بأنه إهانة أو انتقاص أو
تحقير لشخصك ، وأن يظل الحزن مخيماً عليك سحابة نهارك ، فإذا أويت إلى
فراشك صرت تتقلب على جمر الغضا ، وتتذكر الموقف ، وكأنه شريط تعرضه المرة
بعد المرة ، وتحاول نسيانه فلا تقدر !
وحين تغير طريقة التحليل للموقف ، وتتوقع أن هذا الإنسان كان يمر بظروف
صعبة وتعب نفسي ، رجل أثقلت كاهله الديون ، مجهد نفسياً لا تزيده الأيام
إلا قلقاً وعناء ، زوج غاضب زوجته ، أو فاصلها وخسر أولاده وأسرته ، مستور
تلاحقه الشائعات وتقلقه الأقاويل ويتهامس الناس عنه بما لا يجمل ، مريض
حار الأطباء في شفائه ، كئيب يعاني هموماً أمثال الجبال ، شاب ضاعت به
السبل فلا عمل ولا وظيفة ولا شهادة ولا زواج .. إلخ
إن الحياة ملأى بأنواع المتاعب وضروب المعاناة ، ولا يتسنى لكل إنسان فيها
أن يكون هادئاً مطمئناً ساكن النفس مرتاح البال ، يتعاطى القضايا
والمواقف بكل أريحية واعتدال وحكمة ..
وربما هو مثلك الآن يتقلب على فراشه ألماً وندماً على ما فرط منه في حقك !
وإذا قلت .. فلم لا يبادر ويعتذر إليّ .. فهذا حسن جميل ، وخير دواء للندم
حين تسيء للآخرين هو أن تبتسم لهم وتقدم اعتذاراً ليس فيه شرط ولا مثنوية
ولا تردد ولا خجل ..
على أنك لا تدري فربما كان الرجل حزيناً ؛ لأن هذا دأبه معك ومع الآخرين ، وأنها طبيعة نفسٍ حار هو فيها ، ويئس منها أو كاد ..
غيّر رؤيتك وتصوراتك عن المواقف التي تعرض لك وستتغير انفعالاتك إزاءها ، وتذكر أن ربك العليم لا يغير ما بك حتى تغير ما بنفسك ..
سمعت فتى ذات مرة يتضجر من خصومه ويقول :
-اللهم اكفنيهم بما شئت وأنت السميع العليم !
فقلت له : لقد دعوت عليماً رحيماً قديراً سميعاً بصيراً ، وكان أولى بك أن
تقول : اللهم اكفني شر نفسي ، وشر كل ذي شر ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن
شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم .
يا صديقي .. هذه الحجارة التي رماك بها صاحبك يمكن أن تبني بها طريقاً إلى
دروس الصبر والنجاح متى كنت يقظاً مستثمراً للفرص ، إيجابياً في مواقفك
ونظراتك ، مدركاً أنك لست مركز الكون ، وصاحبك أيضاً ليس هو مركز الكون
والسلام .